نطرح عليكم اليوم موضوع شيق وممتع لمن يقرآه لما يحتويه من تاريخ ممزوج بمتعة وذالك من كتاب فصول في التاريخ الإجتماعى لمصر الحديثة لكاتبه الدكتور ناصر أحمد إبراهيم الدكتور بكلية الآداب جامعة القاهرة_قسم تاريخ، ويتطرق الكتاب لآداب شرب القهوة بمصر في العصر العثمانى حيث تميز الآتراك بالنظام والآداب العامة حتى وإن كانت متعلقة بالمشروبات والمآكولات ومن هذه الآداب هى آداب شرب القهوة والتى تعد دراستها من بين الموضوعات الرئيسية المدرجة تحت ما يعرف بتاريخ المنبهات والذى يعالج واحدة من الجوانب المهملة والمنسية في التاريخ الإجتماعى الحديث، ولا يتعامل مع القهوة على إنها سلعة مادية مزاجية وترفيهية فقط، وإنما تركز الكتابة عنها عن قيمة رمزية ترتبط بثقافةخاصة.
ومن المعروف أن القهوة عرفت بالمنطقة العربية من خلال دولة اليمن,ثم آخذت طريقها في الإنتشار بالقاهرة ثم إلى العالم العربي العثمانى بآسره,ثم شقت طريقها إلى دول آوربا ومنها إلى العالم الجديد الذى أقبل على زراعتها بكثافة إنتاجية غير مسبوقة تلبية لحاجة القوى الإمبريالية الإستعمارية لإختراق العالم الإقتصادى العثمانى، وذالك من خلال ضربة قوية لتجارة البن واسعة ا الإنتشار. وتعود الأصول الأولى لظهور القهوة إلى الحبشة وهى الموطن الأول لزراعة البن، ثم إنتقلت زراعته إلى اليمن، وإذ كان من المؤكد أن القهوة آخذت في الإنتشار ببلاد اليمن عن طريق الصوفيين، رغم أن الطابع الآسطورى حاول أن يغلف هذه الحقيقة، وثمة روايات مختلفة حول الشخصيات الصوفية اليمنية صاحبة الفضل في إنتشاره,فرصدت ثلاث شخصيات الأولى إلى الشيخ على بن عمر الشاذلى والذى جعل الجماعة الشاذلية الصوفية تستعمل شرب القهوة كشراب يومى لها وذالك دليل على تسمية القهوة في بعض المناطق باليمن بالشاذلية,بيمنا الشخص الثانى وهو جمال الدين بن أبي عبد الله محمد بن سعيد الذبحانى,ويقال أن سبب إنتشاره لها أنه قد تعرض لآمر آضطره للخروج من عدن إلى الحبشة فلما أقام بها وجد أهلها يستعملون مشروب يسمى القهوة ,ولما إحتساها أكتشف ما تحدثه من يقظة ونشاط فلما عاد إلى اليمن نشرها بين أتباعه الصوفين,والشخصية الثالثة هى الشيخ أبو بكر بن عبد الله المعروف بالعيدروس,وتذكر الروايات انه مر بآحد سياحاته بشجر البن فآكل من ثمره حين رآه متروكا لا ينتفع به آحد رغم كثرته,فوجد فيه تجفيفا للدماغ وإجتلابا للسهر وتنشيطا للعبادة فأتخذه قوتا وطعاما وشرابا وآرشد أتباعه إليه,ثم نشر ذالك في اليمن والحجاز ومصر,وقد جاء العيدروس إلى القاهرة حوالى عام 1486,ومع مطلع القرن السادس عشر بدأت القهوة تتسلل إلى المجتمع المصري وذالك على يد طلاب من اليمن ألتحقوا برواقهم المعروف بأسمائهم بالآزهر الشريف,وكانت القهوة تشرب داخل رواق اليمن بإنتظام في ليلتى الذكر والصيام الإثنين والخميس من كل أسبوع,ثم آخذت القهوة في الإنتشار من الجامع الآزهر إلى البيوت المتصوفة,وفى النصف الثانى من القرن السادس عشر أصبحت القهوة مشروبا خاصا لدى الوسط الصوفى,ولأن هذا المشروب ينتمى إلى الوسط الدينى أصبح مقبولا مما آدى إلى شيوعه وخاصة بعد أن دعمته مقولة صوفية تقول القهوة شراب أهل الله.
وبعد إنتشارها بالقاهرة أنتقلت هذه العادة من مصر إلى بلاد الشام ثم الأناضول التى لم تعرف القهوة إلا بعد نصف قرن من إنتشارها بالقاهرة,فافتتح أول محلين قهوة خانة لتقديم القهوة بإستنابول عام 1554 وكان صاحبهما من الشام,ثم أنتشرب بتونس وبلاد المغرب مع المليشيات العثمانية ببدايات القرن السابع عشر على يد يوسف داى,ولعب التجار المغاربة بمصر دورا فعلا في توريد البن إلى جميع بلدان المغرب العربي,وبصفة عامة لم ينته القرن السادس عشر إلا والقهوة والمقاهى منتشرة في كل ربوع العالم الإسلامى تقريبا.
وآستغرق إنتشار القهوة وقنا طويلا من الشرق إلى الغرب,فحتى منتصف القرن السابع عشر لم يكن التجار الفرنسين والهولنديون بعد مهتمين بمشروب القهوة الذى كان غريبا عليهم، وكان الرحالة الآروبيون الذين زاروا الشرق قد آسترعى إنتباههم هذا المشروب، فالرحالة هنرى كاستيلا الذى زار القاهرة عام 1600 و1601 يقول على سبيل الإندهاش: لقد لاحظت وجود العديد من الحانات التى يشرب فيها الناس طوال النهار ماءا ساخنا أسود اللون، ولم تعرف آوربا شرب القهوة إلا بالنصف الثانى من القرن السابع عشر وذالك من خلال الأرمن واليونانين ,ففي عام 1672 تعرف لندن أول مقهى لشرب القهوة ثم إلى مارسليا ثم بعدها بعام أنتقلت إلى باريس حتى أصبح مشروب القهوة شائعا في كل بلدان العالم.
ومن المعروف أيضا أن القهوة كانت فقط إلى العيان وكبار رجال الدولة والعلماء والآمراء وكبار التجار وظل ذالك قائما إلى ما يقرب قرن حتى أنتقل إلى الوسط العائلي بالبيوت، حيث بدأت القهوة كمشروب خاص بالوجهاء وحدهم، صحيح أن المقاهى قد آنتشرت بشكل كبير وكانت القهوة متاحة للجميع إلا أنها لم تكن مفضلة بآوساط العامة بل كانت مشروبا للتسرية في بعض الآوقات وليس كمشروب يومي وأساسى، حيث كانوا يفضلون شرب العرقسوس وهذا المشروب كان هو المفضل والسائد، وفي أيام العيد كانوا يتمتعون بشرب السوبيا المصنوعة من بوظة الأرز وكانوا يضيفون لها السكر الدراصينى والقرنفل ويتركونها قليلا تتخمر فتكون عندئذ شديدة ومنعشة ومرطبة.
وعندما زار مصر الطبيب الإيرلندى ريتشارد بيرتون مصر عام 1853 وجد أن الفقراء لا يشربون بعد واجباتهم سوى الماء بيمنا الأغنياء يتناولون عقب غدائهم قدح من القهوة مع تدخين الغليون، وهذا يدل على أن مشروب القهوة كان مشروب النخبة، وعلى هذا النحو يتعين أن تناول القهوة والطقوس الخاصة بتقديمه على أنه آحد الفواصل المظهرية والمادية المميزة لدى جماعة إجتماعية معينة تشمل النخبة العسكرية المملوكية والعثمانية ومعظم أبناء الطبقي الوسطى الحضرية من أعيان وكبار التجار وكبار العلماء وجماعات التصوف الذين أدخلوا القهوة ضمن طقوسهم المعتادة خلال تآدية الشعائر الدينية.
كما تميز العسكر العثمانية بشرب القهوة بشكل خاص، حيث كان لديهم خدم مخصوصين يقومون على إعداد القهوة وتقديمها للضيوف ويطلق عليهم مقدمو القهوة، ويرسم لنا القنصل الفرنسى بالقاهرة كوبان صورة حية لملابس وحركة هؤلاء الخدم فقد أعجب بهم خلال إستقباله بديوان أغا الإنكشارية، فكتب يقول أستقبلنا الأغا بالديوان الذى كان مفروشا بسجادة رائعة الجمال وبعد وقت قليل من حفاوة الإستقبال أمر بأن يحضروا لنا الشربات والقهوة، فجاء أربعة من الخدم يرتدون معطف واسع الإبط ضيقهما عند الرسغ مصنوع من الكتاب الأبيض الرقيق ويتمنطقون بأحزمة من الستان الأحمر الموشى بالذهب ويعرف هذا الملبس بالدولمان، وعلى رؤوسهم طواقى من القطيفة المخملية تدور حولها عمامة صغيرة من قماش القطن الرقيق، ويرتدون الكلسون الطويل ذى اللون الأرجوانى الواصل حتى الأقدام، وينتعلون حذاء مدبب الطرف مصنوع من الجلد الأصفر، وعلى حين قدم آثنان من هؤلاء الخدم فوط من الحرير لسيدهم ويجثون على ركبهم أمامى، فيما قدم الإثنان الاخران مشروب القهوة في فناجين البورسلين مع جلوسهم على ركبهم، وعلى غرار ما كان سائدا في سرايا الباب العالى من وجود موظف يعرف بقهوجى باشا مختص بخدمة إعداد القهوة داخل البلاط السلطانى، كان لدى باشا القاهرة يعرف بفراشو الباشا مختص أيضا بإعداد القهوة للباشا بالقاهرة، وعلى الجانب الآخر في القسم الذى يعرف بالحرملك كانت غالبية السيدات من الطبقات العليا بالعصر العثمانى يخصصن يوما بالأسبوع لإستقبال دائرة واسعة من الصديقات في الحريم، وكانت هذه المناسبة فرصة لعرض كلا منهن الأقمشة والملابس وتبادل الهدايا المطرازات وتبادل الأخبار والنميمة، وفى نهاية الضيافة تأتى الجواري لترقص رقصات شرقية، وكانت سيدات الطبقة الراقية يفضلون شرب القهوة في ضيافتهم ، وما قدمناه جزء بسيط من آداب شرب القهوة وخاصة عند الدولة العثمانية.