قصة زاهد
بسم الله الرحمن الرحيم، و الصلاة و السلام علي أشرف المرسلين، و النور المبين صاحب الشفاعة، و إمام الغر المحجلين سيدنا محمد وعلي آله و صحبه وسلم وبعد:
بحثت كثيرا وقرأت أكثر وفتشت في سير التابعين أيامًا، و ليال و حفظ عقلي لهم قصصًا و امتلأ قلبي منهم إيمانا مستقيما من جلهم بل كلهم؛ استقيت من إيمانياتهم الكثير و الكثير الغالي الثمين من الحكمة العظيمة التي لا تجدها إلا عند أمثالهم الذين ملؤا الدنيا خيرات، و بركات و انتفعنا منهم كل النفع.
ما أجمل الحديث عنهم، و ما أنقاهها خلوة مع الله حينما تبحث عن هؤلاء، لست أعرف من هو أقربهم إيمانا عند الله، و من هو أعلمهم وأوقرهم عند الله والناس كي نتحدث عنه، و عن زهده و ورعه في عبادته و كيف زهد الدنيا، و لكني سأحكي لكم قصة عن أحد هؤلاء تعلمنا ما حقيقة الزهد.
فتعال بنا بكوب من الشاي المصري أو فنجان من القهوة البرازيلي و بعض من التسالي الليلية كي نجلس مع ذكراهم، و نتعلم من دعوتهم وترحالهم الدروس والعبر، و أول ما نبدأ به الصلاة والسلام علي من علم البشرية كيف الزهد و كيف يكون الدين القويم؛ فعلمهم الكثير والكثير حتي خرج لنا من مدرسته صلي الله عليه و سلم مثل هذا التابعي صاحب الزهد الذي فاق الوصف.
نعيم البداية:
كان من عائلة غنية جدًا لا ينقصه شيئ في الدنيا كل ما يطلبه موجود، يعيش في القصور، يلبس أفخم الثياب وأجملها وأغلاها ثمنا، كريم بين الناس عنده الخدم الذين يتحملون عنه كل مشقة وتعب، يتحملون من أجله أي صعاب مجبورون إن أراد ذلك ولكنه كان عطوفا، ومحبوبا بين كل الناس، بين كل من يراه كان ينفق في سبيل الله كل ما في يده يساعد الفقراء و المحتاجين و المساكين وقد يقوم بأعمالهم حين لا يجدون من يقوم بها لهم إن كانوا ضعفاء شيوخًا عاجزين ، كان عالمًا من علماء الإسلام يعرف الحق و يصول و يجول ضد الباطل، عنده لسان بيان قلمًا تجده في كل العصور.
زهد الملك و ذهب للمالك:
تزهده فاق المدي فقد ترك كل ذلك و ذهب بعيدًا عن أهله و ماله و أشقائه، و أعوانه و أصدقائه و بلدته و راح يتعبد بعيدًا و ينشر الإسلام في كافة البلاد اختار الرحلة والترحال علي القعود والكسل، اختار السفر والمشقة والعناء، علي القعود والنوم والراحة، اختار العلم ونأي عن الجهل، طلب من الخالق وعدل عن المخلوق، اقترب من المالك و ابتعد عن المملوك انه العالم العابد المحسن الزاهد ((إبراهيم بن الأدهم)).
هكذا كانت حياة العلماء الزهاد الذين كانوا يطردون كل ما هو نفيس من حياتهم، العارفون بالله حق المعرفة، الذين كانوا يعبدون الله عز وجل حق العبادة، ويتنعمون في خلواتهم بذكره، و قنوتهم له سبحانه وتعالي، وتفكرهم في مخلوقاته جل في علاه.
الدعوة ومسؤلياتها:
هذا و بعد فترة من الزمن يموت والده، ويأتي إليه حارث من قصره ليعطيه ما يقوْمه علي العيش من الدراهم و الدنانير و الذهب وما إلي ذلك؛ فيقول له من أين جئت؟ فيقول له من قصركم من بيتكم وهو يعلم ذلك؛ فانظر ما كان قوله له أقطعت كل هذه المسافة، ومررت بكل تلك البلاد كي تعطيني ذلك خذهم لك تقديرا لأمانتك
لقد تغلب علي شهواته و قاتلها حتي دفنها في زحمة العبادات و صدق النيات و الدعاء في الصلوات؛ هكذا كانت عبادة الصالحين والانبياء والاولياء المقربين؛ هكذا كانت منهجيتهم في الحياة لا شيئ فوق عبادة الله عز وجل ،لا شيئ يعلو فوق زهد النفس وقناعاتها، لا شيئ يعكر صفوها، لا شيئ يضاهي إحساسهم الرهيب بمسؤليتهم التي تقع علي عاتقهم من تبليغ دعو،ة وشفاء القلوب الضعيفة الذين يحتاجونهم دائما لنصحهم، وإرشادهم في هذه الحياة المملوءة بشياطين الشهوة والملذات.
انظر كيف يعيش الآن بعدما ترك ملكهم وزهد عنه بالإيمان وصدق النوايا، يعيش في أعالي الجبال الرملية منها، والصخرية التي كانت كثيرا ما تمطر عليهم رملا بمعني الكلمة؛ تضرب وجوههم الرمال الصفراء في ساعات الليل في البدر القارص، قد لا يجد ما يأكل لمدة أيام فقط يعيش علي التمر والماء، يعيش علي خبز وزيت، خبز وملح فضل العيش هكذا عن ان يظل في بيته منعم مرفه وغيره لا يعرف النوم مكان عينيه، لم يرضي أن يرتاح، وغيره يبحث عن الشقاء في كل يوم كي ينفق علي عياله وعلي ذويه.
لم يرضي أن ياكل وغيره جوعان، لا يريد أن يكون بين اهله وغيره يتيم بلا أب أو احد قد فقد ابنه أو ام ثكلي فقدت ابنها او ربة بيت ترملت بعد موت زوجها اعياها الشغل والتعب والانفاق والتربية لاولادها لا يريد زواجا وغيره لا يقدر علي ذلك من بنا لبيت و نفقات و غيره من مشاكل الحياة التي قد تعوق الشباب وقد تعوق والدا عن العيش مع أولاده وتربيتهم من أجل جلب قوت يومهم؛ ترك حياته نهائيا مع كل مقومات الحياة التي بين يديه كي يلقي ربه بقلب نظيف كي يلقي ثواب كل هؤلاء كي يعين غيره حتي باحساسه وشعوره أنه مثلهم أنه وإن كان قادر علي مساعدتهم فهو يتمني أن يكون مثلهم كي يدخل في زمرتهم كي يحشر معهم اللهم احشرنا مع زمرة المساكين؛ عاش علي ذلك إبراهيم ابن الادهم علي حديث المصطفي صلي الله عليه وسلم.
هدية:
قد يكون ذلك الرجل هبة لنا ودعوة ذكرى من الله تبارك وتعالى إلينا، وهدية أهداها لنا الله عز وجل من عنده فلله في خلقه شؤن؛
لماذا أقول ذلك؟
أقول ذلك لأن هذا الرجل أتي إلي الدنيا في مكان غريب؛ وسط تكبيرات وتهليلات وأثناء تلبية الحجاج؛ أمام الحرم المكي عند الكعبة؛ أمه وأبوه يطوفان فسمياه إبراهم
فولد في مكان طاهر، و في وقت طاهر باسم طاهر بنفس صافية راضية بقضاء الله وقدره، بظروف وضع نفسه فيها كي يلقي من ربه العفو و الرضا؛ والغني منه لا من غيره حتي ولو كان هذا الغني حلال، حتي ولو كان هذا المال من شغله وكسبه وتعبه طوال الليل والنهار.
وكان من إيمانياته هذا القول فإبراهيم بن الأدهم هو القائل لمن ساله عن تحليل المعصية فقال له إذا أردت أن تعصي الله فلا تعصه فوق أرضه واذا أردت ان تعصيه فلا تعصه تحت سماءه وإن أردت أن تعصه فلا تأكل من رزقه وإذا أردت أن تعصه فاهرب من الموت وان اردت ان تعصه فاجري علي الجنة حين يجروك ملائكة جهنم إلي النار.
حقيقة الزهد:
فقد عاش كما علمه نبينا صلوات ربي و سلامه عليه الزاهد في الدنيا حين وضع أهل قريش بين يديه، وأمام عينيه كل الملك الذي يتمناه الشيخ الكبير قبل الشاب المحتاج لكل هذه المقومات التي عرضوها أمامه ليبدأ بها حياته كي يترك دينه الذي أرشدهم اليه صلي الله عليه وسلم بإيمانه و زهده و بحجته التي غلبت كل من فكر أن يهز ثقته فيما أنزله الله إليه فقد أغروه بالملك و المال و الغني و القصور و التمكين فيهم مقابل شيئ واحد وهو أن يترك رسالته ودينه الذي يؤمن به فقال لهم صلي الله عليه وسلم والله لو وضعوا الشمس عن يميني والقمر عن يساري علي أن أترك هذا الأمر ما تركته أبدا؛ صلي الله علي الحبيب الزاهد معلم الأجيال شفيع الامة.
وانظر الي عبادة كل الأنبياء والصالحين تجدهم زاهدين في الدنيا زاهدين عن كل شيئ قد يعوق تفكيرهم بالله وبما أنزل وبما يامرهم به فالزهد قاعدة أساسية في الأديان يجب أن نفهمها جميعا، ونعقلها بأفهامنا ونعمل بها ونعيش عليها هذه العبادة التي عاني من أجل أجرها الكثير ليست بسهلة؛ فهي تحتاج لايمان صادق لله ليقدر الواحد منا في هذه العصور أن يتخلق بمثل هذا الخلق العظيم.