التقليلية و التقنين : تعرف على مبدأ التقليلية ضمن مدرسة المينيماليزم
ما هو مبدأ التقليلية أو التقنين ؟
في محاولات مستمرة لإنقاذ كوكبنا الأزرق من حالته المتدهورة تحت طائلة النفايات و الاستهلاك و الاحتباس الحراري، تصاعدت نداءات مستغيثة باقتراحات عديدة، و لعلّ أهم تلك الاقتراحات هي التقليلية أو تقليل الاستهلاك.
لا تستطيع مطالبة أحدهم بالتوقف عن شراء احتياجاته دون إعطائه بدائل مناسبة ، وتلك البدائل تستلزم تصنيعًا هي الأخرى . و من هنا ظهرت عدة تعبيرات مثل : المنتجات المُستَدامَة ، و نظام الحياة الخالي من المخلفات ، و التقليليَّة أو ما يُسمَّى بعبارة أخرى ” التَّقْنين“.
المُنتجات المُسْتَدَامَة
و لنبدأ بالمنتجات المُسْتدامة ، و هو تعبير يُطلَق على المنتجات المُصَنَّعَة بغرض ديمومتها و بقائها لأطول فترة ممكنة ، بل وربما حتى فنائها .
و يشمل ذلك استبدال المناديل القماشية القابلة للغسيل بالأخرى الورقيَّة ، و استبدال شفرات الحلاقة المعدنية التي يُعاد استخدامها بعد التنظيف بالأخرى البلاستيكية التي تُسْتَخدم لمرة واحدة، واستبدال زجاجات المياه الزُّجاجِيَّة و أوعية حفظ الطعام بالأخرى البلاستيكية، و استبدال الأكياس القماشية بالأخرى البلاستيكية ، وقشات العصير المعدنية أصبحت متوفرة بدلًا من البلاستيكية.
و هناك من دعا لاستبدال المصنوعات الخشبية بكل ما هو بلاستيكي الصُّنع في حياتنا مثل ألعاب الأطفال و الأثاث و غيرها .
و هذه المنتجات المُسْتدامة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بطريقة العيش الخالية من المخلفات، حيث أنك طالما تستخدم منتجًا حتى فنائه فلن تُنْتِج مخلفات بنفس القدر لو كنت تستخدم منتجًا يتحتَّمُ عليك التخلُّص منه بعد استخدامه لمرة أو اثنتَين .
و نجد طريقة العيش تلك قد ولَّدَت أفكارًا مُبْدِعة للتكيف معه، كمتاجر إعادة التعبئة. و هذه المتاجر تعمل على توفير المنتجات – التي لا تتواجد عادةً إلا مُعبَّأة في عبوَّات بلاستيكية يتحتَّمُ عليك التخلُّص منها يومًا ما – بشكل حُرّ و سائب ليستطيع المستهلك إحضار إناء أو عبوَّة و يُعيد ملأها كلما فرغت !
و يشمل ذلك منتجات العناية بالبشرة والشعر، ومنتجات التجميل، والمنظفات و المساحيق، حتى الحبوب و الغِلال . و نجد كذلك كثير من المتاجر و المقاهي توفر الآن مكان لإعادة تعبئة زجاجتك بمياه نظيفة للشرب بدلًا من شراء زجاجة بلاستيكية ، وسواء أكان ذلك مقابل مال أو مجانيّ فهي خطوة رائعة !
بدائِل تُراثِيَّة
في محاولات مُتَّبِعِي نظام الحياة بدون مخلفات لإيجاد بدائل تناسب قراراتهم ، نجد أنهم قد عادوا إلى التراث لاستجلاب ما يناسب مبادئهم . على سبيل المثال : استبدال منتجات تنظيف الشعر والبشرة كلها بصابون الغار ، والذي استخدمته جداتنا و أمهاتنا في الماضي .
و الذي ناسب المفاهيم الجديدة ؛ فالصابون سينتهي يومًا ما دون أن يُخلِّف أي بقايا و قد أدَّى وظيفة التنظيف للشعر و البشرة على أكمل وجه ! أيضًا استبدال فرشاة الأسنان البلاستيكية بالفرشاة الخشبية ، ولكن هذه الثانية لا تزال تستلزم منك شراء معجون الأسنان و الذي تُعَدُّ عبوة تغليفه من أكثر المخلفات صعوبة في إعادة التدوير.
لذلك ظهر المُنْقِذ ألا وهو المِسواك، والذي دعت إليه السنة المحمدية منذ زمن طويل! نجد أيضًا استخدام للزيوت الطبيعية بدلًا من مستحضرات الترطيب و العناية، ولا حاجة للتذكير بأن هذه الزيوت كانت الوسيلة و الطريقة المُتبَّعة لدى أجدادنا و جداتنا و حتى الآن .
و مثال أخير كي لا نطيل الوقوف عند هذه النقطة استخدام نبات ” الليف” لتنظيف الجسم وتقشيره أثناء الاستحمام .
تبسيط العَيْش
و يظهر داعمًا لطريقة العيش تلك – والتي ظهرت أصلًا لتقليل الاستهلاك – تعبير جديد وهو “التَّقْلِيلِيَّة ” أو ” التَّقْنِين “. و يقوم هذا المفهوم على فكرة تقليل العناصر الموجودة بحياة الفرد .
و لو توقفنا هنا لظن كثير من القُرَّاء أننا نقصد التَّقَشُّف أو الزُّهْد . لكن مفهوم التقليليَّة أو التقنين يتسع لأكبر من مجرد التقشف أو الزهد. نشأ المفهوم لدعم وقف عملية الشراء أو تقليلها لأقصى حد ، وبالتالي يتوقف البيع و التصنيع نفسه أو يتباطأ أيضًا . وكل هذا يَصُبُّ في مصلحة الفكرة العُظمَى و هي إنقاذ أرضنا.
لكن مفهوم التقليلية اتسع شيئًا فشيئًا فشمل كثيرًا من عناصر الحياة و ظهرت فوائده ومنافعه على أصعدة أخرى مثيرة للاهتمام .
يبدأ الشخص التَّقْلِيلِيّ أو المُقَنِّن بالتخلُّص من الممتلكات الزائدة عن حاجاته اليومية، و كلمة ( حاجاته) هنا دقيقة للغاية ؛ فلا مكان لما هو زائد عن الحاجة . على سبيل المثال : لو تمتلك ثلاثة دفاتر ، وتكتب في واحد فقط الآن ، يجب أن تتخلص من الاثنين الزائدين و فورًا ! لك أن تتخيل تطبيق ذلك على كل جوانب الحياة ! الملابس التي لا ترتديها إلا نادِرًا ، ومجموعتك المفضلة من الأحذية ، و نظاراتك الشمسية يكفيك منها واحدة !
شمولية التقليلية لكل جوانب الحياة
ظهرت منافع التقليلية بشكل جَلِيّ على مُطبِّقِيها سريعًا ، فلقد تخلصوا من الفوضى في محيطهم ، و أصبحت مهمة التنظيف أسهل بكثير ، بل و أثَّرَ ذلك على صحتهم العقلية و النفسية بتخلصهم من توتر الامتلاك لأشياء و بالتالي شعورهم بالذنب إن خطر لهم شراء شيء آخر .
فتسرَّب هذا المفهوم ليشمل كل جوانب الحياة سعيًا للصفاء الذهني و الراحة النفسية أكثر من كونه وسيلة لإنقاذ بيئتنا المتضررة . لذلك وجدنا الكثيرين ممن يَدعون إلى التقنين في العالم المعلوماتي و التكنولوجي ؛ بحذف التطبيقات غير الضرورية من الهواتف النقالة ، و الاكتفاء ببريد الكتروني واحد ، و إلغاء الاشتراكات في المواقع غير الهامة ، بل و محاولة حذف حسابات التواصل الاجتماعي و لو لفترة .
هناك طرق عديدة للتخلص من تلك العناصر الزائدة عن الحاجة ، ففي حالة العناصر المعلوماتية فمصيرها الحذف و الفناء ، وفي حالة العناصر المُسْتَهَلَكة و الرديئة أيضًا مصيرها القمامة .
أما في حالة الأشياء التي لازالت تحتفظ ببعض النفع و الرونق ، فهناك عدة طرق . البيع هو أول هذه الطرق و أكثرها شهرة ، ومزامنةً لهذه المفاهيم الجديدة ظهرت مواقع على الشبكة الدولية و أماكن على أرض الواقع لبيع هذه العناصر بسعر يناسب حالتها و قيمتها ، فتكون المنفعة مزدوجة للشخص المُقَنِّن بحصوله على براح إضافي و مال إضافي !
الطريقة الثانية التبرُّع للمحتاجين أو إهدائها للأصدقاء و المعارِف ، فتقع هذه العناصر التي كانت ستقضي حياتها منسيَّة و غير مُقَدَّرَة في أيدي تُقَدِّرُها و تحترمها ، واحترام الممتلكات يكمُن في استخدامها .
السنة النبوية و مدرسة المينيماليزم
قد يظُنُّ البعض أن هذه المفاهيم بعيدة عن ديننا الحنيف ، أو أن ديننا قد فاته مثل تلك المفاهيم ، لكننا نجد في السنة المحمديَّة ما يدعم هذه المفاهيم مثل التقليلية .
عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيّ رضي الله عنه قال : بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه و سلم ، إذ جاء رجلٌ على راحلة له ، قال : فجعل يصرِف بصرَه يمينًا و شمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” مَن كان معه فَضْل ظهرٍ فَلْيَعُد به على مَن لا ظهرَ له ، و مَن كان له فضلٌ من زادٍ فَلْيَعُدْ به على من لا زادَ له ” قال : فَذَكَرَ من أصناف المال ما ذَكَرَ، حتى رأينا أنه لا حقَّ لأحدٍ مِنَّا في فَضْلٍ .
فتجد النبي صلى الله عليه و سلم لم يُخصِّص حديثه بموقف هذا الرجل تحديدًا قائلًا ( فليعد به على هذا الرجل ) بل تركها مفتوحة لكونها قيمة عامة يحرص الإسلام على تحلِّي أفراد المجتمع بها ، فقال صلى الله عليه و سلم ” فليعد به على مَنْ …” .
التخفف Minimalism و موقف الإسلام
وموضع الشاهد هنا هي مُفردة “فَضْل” ، فمعناها : زائد عن الحاجة ، و قد كانت فصاحة النبي صلى الله عليه و سلم أمام اختيارات عديدة في اللغة العربية لكنه اختار هذه المفردة بالذات ، والتي لا يحتمل معناها إلا نفس معنى التقليلية والتقنين ، وهو العنصر الزائد عن الحاجة .
و عدَّدَ النبي صلى الله عليه وسلم أصنافًا مختلفة من “المال” – وهو كل ما يُتمَلَّك و يمكن بيعه و شراؤه- ، ذَكَرَ الصحابي أبي سعيد الخُدَرِيّ رضي الله عنه أول صِنْفَيْن ، و ترك البقية -لكثرتها على الأرجح- لعقل المستمع أو القارئ للحديث ، و ذَيَّل ذلك بقوله : ” حتى رأينا أنه لا حق لأحد منَّا في فضل” .
و هذا يعني أن النبي ذكر شتَّى العناصر المُتَمَلَّكة وقتها و شملها بحكم عطاء الزائد منها لِمَن في حاجة إليها . و في الحديث سَعَة ؛ فلم يُحَرِّم الاحتفاظ بهذا الفضل الزائد ، ولم يحدد كيفية إعطاء هذا الفضل الزائد سواء بالبيع أو الهدية أو الصدقة .
نهايةً يظهرُ لنا أن هذه المفاهيم التي اقتحمت الشبكة الدولية مصحوبةً بشواهد عملية لمقاطع مرئية لأشخاص طبَّقوها بالفعل ، ولمتاجر لمنتجات تساعد على اتباعها ، موجودة في تراثنا العربي و الإسلامي منذ القِدَم ، وما كانت تحتاج سوى أن يُكشَف عنها الغطاء لتحيا من جديد ، ويحيا بها كونُنا و نُصْلِح ما أفسدناه به .
يقول الله تعالى : ” ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” .