تعد الولايات المتحدة الحديثة هي أقوى دولة في تاريخ البشرية وتعتبر أميركا قوة عظمى ، و مع وجود ما يزيد على 800 قاعدة عسكرية و 37% من الإنفاق العسكري العالمي، أصبحت الولايات المتحدة زعيمة لنظام عالمي مترابط و متشابك و شاسع، ساعد ذالك في بداية عصر من الازدهار غير المسبوق و مستويات الصراع المنخفضة.
و لكي نفهم مكانة وموقع أميركا بالنسبة إلى العالم، و لماذا تشكل هذه المكانة أهمية محورية بالنسبة للسياسة العالمية كما نعرفها، يتعين علينا أن نعود إلى تأسيس البلاد أي عندما لم تكن أميركا قوة عالمية بمعنى الكلمة.
بداية الصعود و تاسيس أميركا قوة عظمى
بعد سبعون عاماً من تأسيسها، توسعت الولايات المتحدة في أنحاء أمريكا الشمالية وإزاد نفوذها و أصبحت أميركا قوة عظمى ، ووصلت في نهاية المطاف إلى المحيط الهادئ في موجة توسعية أسفرت عن ذبح السكان الاصليين للقارة الأمريكية الشمالية.
و لكن الأميركيين الأوائل كانوا منقسمين بشدة حول ما إذا كان ينبغي للبلاد أن تتوسع إلى ما هو أبعد من المحيط الهادئ و المحيط الأطلسي. بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1865، دارت مناقشات عديدة في الأوساط السياسة و الحزبية و بين الزعماء حول هذا التوسع، و بين مؤيد ومعارض دعا وزيرالخارجية آنذاك سيوارد إلى المزيد من الإمبريالية وحشد الجهود من اجل أن تتحول أميركا إلى قوة عالمية.
حسابات الداخل والخارج
نجح سيوارد في دفع خطة لشراء ألاسكا من روسيا، لكن محاولاته لشراء غرينلاند وأيسلندا، فضلاً عن ضم منطقة الكاريبي تم افشالها بواسطة الكونجرس، ذلك لأن بعض الأميركيين، بما في ذلك الكثيرين منهم في الكونجرس، لديهم ميل قوي ضد الإمبريالية، بالاضافة إلى تخوفهم من انخراط أمريكا أكثر من ذالك في السياسة العالمية و اضطرارهم إلى دمج سكان من الاعراق الأدنى، وقد فرضت هذه المعارضة ضوابط كبرى على الرغبة الإمبريالية في التوسع، ولكن شيئاً ما حدث في أواخر القرن التاسع عشر من شأنه أن يغير الجدل حول التوسع الأميركي.
أنتجت الثورة الصناعية نمواً اقتصادياً هائلاً، وكان الاقتصاد الأمريكي الأكبر يتطلب دولة مركزية وبيروقراطية أكثر لإدارة هذا الاقتصاد المتنامي. أصبحت السلطة مركّزة في الحكومة الفيدرالية، مما سهل على الرؤساء التوسعيين، مثل ويليام ماكينلي، دفع نفوذ الولايات المتحدة إلى الخارج من جانب واحد.
كانت نقطة التحول الرئيسية في عام 1898، عندما جر الرئيس ماكينلي البلاد إلى حرب مع إسبانيا على جزيرة كوبا على الرغم من المعارضة الشديدة.
هزمت الولايات المتحدة (القوة الصاعدة) بسهولة الإمبراطورية الإسبانية المحتضرة، واستحوذت على بورتوريكو و غوام، وعلى مدار العامين المقبلين، ستضم الولايات المتحدة مملكة هاواي (1898)، و يك آيلاند (1899)، و ساموا الأمريكية (1900). بعد بضع سنوات سيطرت الولايات المتحدة على منطقة قناة بنما (1903) و أرسلت قوات لاحتلال جمهورية الدومينيكان (1916)، كما اشترت جزر فيرجن الأمريكية (1917).
وضعت هذه الفترة من الاستحواذ السريع على المناطق النائية الولايات المتحدة على الخريطة كقوة عالمية حقيقية.
خلال هذا الو قت، بدأت أمريكا أيضًا في استخدام نفوذها لحماية مصالحها التجارية والعسكرية المتنامية في الخارج، وتثبيت الأنظمة الموالية لأمريكا في أماكن مثل نيكاراغوا ولعب دور رئيسي في الدبلوماسية الدولية فيما يتعلق بالوجود الغربي في الصين.
الانخراط في الحروب العالمية
أظهرت الحرب العالمية الأولى مدى نمو تأثير أميركا، اذ لم يكن التدخل الأمريكي عاملاً حاسماً في نهاية الحرب فحسب، بل حضر الرئيس ويلسون مؤتمر باريس للسلام الذي أنهى الحرب وحاول تحديد شروط السلام.
لقد قاد ويلسون مبادرة السياسة الخارجية الأمريكية الأكثر طموحًا حتى الآن، وهي منظمة دولية تسمى عصبة الأمم، تهدف إلى تعزيز السلام والتعاون على مستوى العالم. لقد أظهرت العصبة، وهي جهد جماعي لإعادة تشكيل السياسة العالمية، إلى أي مدى أصبحت السياسة الخارجية الأمريكية الطموحة.
ومع ذلك، كانت الانعزالية لا تزال الاتجاه السائد في الولايات المتحدة. فقد منع الكونغرس الولايات المتحدة من الانضمام إلى عصبة الأمم، و احباط مشروع ويلسون.
خلال فترة الكساد الكبير وصعود هتلر، كانت الولايات المتحدة أكثر تركيزًا على منطقتها من التركيز على الشؤون الأوروبية في نهاية المطاف، على الرغم من ذلك، فإن التشابكات الأمريكية المتنامية في الخارج جعلت من المستحيل عليها الابتعاد عن الشؤون العالمية تمامًا.
في شرق آسيا، شكلت الإمبراطورية اليابانية المتنامية تهديدًا مباشرًا للمستعمرات الأمريكية وكذالك قواتها، مما أدى إلى نشوب صراع بين الولايات المتحدة واليابان. بلغ الصراع ذروته بالهجوم على بيرل هاربو، الذي دفع الولايات المتحدة إلى الحرب العالمية الثانية التي من شأنها أن تحول الوجود الامريكي على الساحة العالمية إلى الأبد.
أمريكا وتحديد ملامح النظام العالمي الجديد
كانت الولايات المتحدة القوة الرئيسية الوحيدة التي تفادت الخراب الاقتصادي خلال الحرب، وكانت الدولة الوحيدة المجهزة بالأسلحة النووية، وعلى هذا النحو، كانت في موضع فريد لوضع شروط السلام التي تريدها – وبهدف منع حرب أخرى في الاعتبا، والمثال الأكثر شهرة على ذلك هو إنشاء الأمم المتحدة.
وضع ميثاق الأمم المتحدة نظامًا للقانون الدولي يحظر حروب الغزو، مثل تلك التي شنها النازيون واليابانيون، كما أنها بمثابة منتدى يمكن للمجتمع الدولي أن يعرض فيه المنازعات ويساعد في حلها، هكذا كان يأمل الأمريكيون أن تتمكن القوى العظمى من حل خلافاتهم من خلال التسوية والقانون بدلاً من الحرب.
ولكن في حين أن الأمم المتحدة هي أشهر مؤسسات ما بعد الحرب، فهي ليست الوحيدة، فقد اجتمع 730 مندوبًا من جميع دول الحلفاء الأربعة والأربعين في ملاذ صغير لقضاء العطلات في نيو هامبشاير، هدفهم؟ إنشاء نظام مالي عالمي من شأنه أن يمنع أي كساد اقتصادي آخر وأي حروب عالمية.
أصبحت الاتفاقية الناتجة عن هذا الاحتماع، والتي يطلق عليها اتفاقية بريتون وودز، العمود الفقري للنظام المالي العالمي، وأدى ذلك إلى قيام البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، من خلال إنشاء هذه المؤسسات، ألزمت الولايات المتحدة نفسها بالمشاركة بعمق في مشاكل العالم، لكن المشكلة هي أن ثاني أكبر قوة في العالم – الاتحاد السوفيتي – رأيت الأمور بطريقة مختلفة.
احتواء التوسع السوفيتي ” الحرب الباردة “
كانت الحرب العالمية الثانية قد شكلت حلفاء من الغرب الديمقراطي والشرق الشيوعي في الحرب ضد هتلر، لكن ذلك لم يدم طويلا، فقد رأت الولايات المتحدة أن التوسع السوفيتي في أوروبا الشرقية وفي أماكن أخرى يشكل تهديدًا مباشرًا لرؤيتها لعالم التجارة الحرة.
بشكل أو بأخر وإلى حد كبير، خيم ظل الشيوعية على معظم أرجاء الأرص، وأغاق انتشار الديموقراطية ، خوفًا من النوايا السوفيتية تجاه أوروبا الغربية، أنشأت الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى منظمة حلف شمال الأطلسي، وهو تحالف عسكري يهدف إلى منع روسيا من غزو دول أخرى في أوروبا.
على الصعيد العالمي، التزمت الولايات المتحدة باستراتيجية تسمى “الاحتواء”، لأنها كانت تهدف إلى احتواء انتشار الشيوعية في كل مكان في العالم، هذا الصراع العالمي الجديد يعني أن الولايات المتحدة كان عليها ممارسة نفوذها في كل مكان ، وفي كل وقت.
فبدلاً من تفكيك الطاقات العسكرية الهائلة التي أنشئت أثناء الحرب العالمية الثانية، استمرت عجلاتها في الدوران، وكان لهذا نتيجتان رئيسيتان:
أولاً، اضطرت الولايات المتحدة إلى الدخول في تحالفات غير محتملة مع دول مثل المملكة العربية السعودية وإسرائيل وكوريا الجنوبية، حيث رأت أن كل واحدة من هذه الدول بمثابة حصن ضد النفوذ الشيوعي في منطقتها.
ثانياً، بدأت الولايات المتحدة تتدخل سراً في كثير من الأحيان، في عشرات البلدان لاحتواء النفوذ السوفيتي، كان هذا يعني أحيانًا دعم الديكتاتوريين المتعاطفين كما هو الحال في إيران، وفي أحيان أخرى دعم المتمردين بالأسلحة والمال كما في أفغانستان في عام 1979 ونيكاراغوا في عام 1985.
على مدار الحرب الباردة، تدخلت الولايات المتحدة في مئات النزاعات حول العالم، وانتهت بمجموعة معقدة من التحالفات والتوترات والعلاقات في كل ركن من أركان الأرض، و بعد سقوط جدار برلين، كان بإمكان الولايات المتحدة الانسحاب من هذا النظام، و قطع العلاقات مع حلفائها و تخفيض حجم جيشها، في حين وجهت الولايات المتحدة معظم انفاقها العسكري على البنية التحتية العسكرية، وجزء كبير منه على حلفائها، ظلت الحرب قائمة.
شكوك حول الالتزامات الأمريكية وهل أميركا قوة عظمى
قرر كل من الرئيسين جورج بوش وبيل كلنتون أنه من مصلحة الولايات المتحدة أن تصبح القوة العظمي الوحيدة على وجه الأرض، و أن تستمرفي إدارة الشئون العالمية بفعالية، حيث استمر دعمها لدول مثل اسرائيل واليابان و بعض الدول لمنع الحرب فيها.
أصبح النظام العالمي للتحالفات والمؤسسات التي تم إنشاؤها للحفاظ على السلام أثناء الحرب الباردة دائمًا، بفضل الالتزامات السياسية والعسكرية الامريكية للحفاظ على بقائها، و لا يزال هذا النظام ساري المفعول حتى اليوم، ولم يدعو أي سياسي أمريكي بارز منذ الحرب الباردة إلى تفكيكه بجدية – باستثناء ربما دونالد ترامب، الذي قال أشياء متناقضة حول هذه الالتزامات.
لكنه يجادل باستمرار بأن الحلفاء الأميركيين لا يدفعون لأميركا ما يكفي لحمايتها، وتساءل عن قيمة التجارة الحرة، وهذا يجعل الناتو وحتى منظمة التجارة العالمية موضع تساؤل. و هو تباعد حاد عن الإجماع الذي هيمن على السياسة الخارجية الأميركية منذ عام 1945. فهل سيقوم الرئيس ترامب بالعمل على بعض أفكاره، على عكس عقود من بناء المؤسسات والتحالفات؟ سوف نكتشف ذالك قريبا……
أقرا أيضا: خطوات الهجرة الي الولايات المتحدة الامريكية