فقط لسان ذاكر لله
كنت جالساً في أحد شوارع قري الصعيد ” جنوب مصر” أتأمل المارة و بجواري كوب من الشاي الساخن الذي
أعتدته مؤخرا بعد صلاة العصر.
و أثناء نظراتي العابرة في عيون الناس محاولاً تفسير شرود بعضهم و بسمات بعضهم التي رسمت علي
وجهه و هو يمشي وحده فهذا لعله وجد باب رزق جديد و هذا فقد قريب و هذا تذكر والده المتوفي و تلك
تحلم بفارسها و هكذا.
و فجأة إذا بأحد العربات تحمل رجلاً ملقي فيها عليه آثار تراب و به بعض أنات تراها علي وجهه مكتومة
عجوز تجاوز الثمانين بجلبابه و عمته و عصاه ، أسرعت إليه لأرى ماذا حل به ، قال صاحب العربة لقد
أوقعته راحلته ” حماره” حملته و أدخلته أحد البيوت أخذ بالدعاء لي ظللت بجواره أطببه و أمسح عنه
و أدلك ساقه بالماء الساخن التي أحضرته قريبته و سرعان ما أتت بناته و أولاده و أخوته و أحفاده الكل
في فزغ و خوف إلا هو !
فقط لسان ذاكر لله حامداً شاكراً وجهاً بشوشاً مبتسماً و أخذ يحدثني عن كرم الله و فضله و لطفه ” و هو أمي لا يقرأ
و لا يكتب ” و كم أن هذه الحادثة هي فضل من الله عليه و الجميع حوله يبكي و هو لا يلقي لأحد بال.
العم سالم المُريد
علمت حينها إنه مريد لأحد مشايخ الطرق الصوفية و هو الشيخ ” علي النوبي ” و قد كان صديقه أيضا ، أخذناه
و ذهبنا به لعمل الأشعة المطلوبة و بالفعل كان يحتاج لشرائح و مسامير في أسرع وقت تعجبت جداً ، كيف ؟!
هو يضحك و يتكلم و لا يتألم فقط لا يستطيع السير لكن يذكر الله و يحمده و يحرك قدمه و كل شئ من أين لهذا الرجل بهذا الحال ؟!
أخذوه للمشفي و قاموا بعمل العملية الجراحية له في اليوم التالي و هو علي نفس الحال من الذكر و الإبتسام
و الشكر و التسبيح لله رب العالمين حتي أثناء الجراحة فلم يكن فاقد الوعي بالكلية ، في اليوم التالي لها ذهبت
لزيارته وجدته بوجهه الباسم كعادته لا أثر لأن هذا الرجل بالأمس قد كان بفرغة العمليات معلق له المحاليل
و هو علي حاله من الذكر و البسمة آخذا في سرد العبر و السير رآني تبسم و هلل قبلته و دعوت له بالشفاء فأخذ
يذكر الله و يتراقص بقدمه و أنا في منتهي الإستغراب منه و يمدح رسول الله و يمدح و يمدح حتي بكي من الشوق
و الوجد و نحن من حوله مأخوذين من فعله و من تلك القوة التي منحت له.
حالة من النور
مرت الأيام و إذا بإحد الأصحاب يقول لي أن العم ” سالم الطيب” قد أتي و سأل عليك تبسمت و قررت أن أذهب
إليه في اليوم التالي يسكن هو في بيت ريفي في وسط الأراضي الزراعية بعيد إلى حد ما عن باقي الحضر القديم للقرية و لكن حوله بعض المنازل دخلت الشارع فإذا به جالس يقرأ القرآن و بيده مسبحة و مصحف و عصاه التي أصبحت رفيقته و كأنها جزء منه
أخذني بالأحضان و القبل و أصر علي دخولي و أخذ يحكي عن شيخه ” علي النوبي ” و كراماته ”
و بعيدا عن صدق ذلك من عدمه لا تكذيبا للرجل بل لأن بعض الأشياء لجهلنا بكيفيتها نحسبها من وراء
الغيب و من وراء القدرة و هذا ما قد يكون قد حصل معه.
” حالة من النور و الصفاء تغشت المكان و المجلس بسمات خفيفة علي الوجوه و هو أخذ يحكي و يسرد
ثم أخذ في الإنشاد علي طريقته الخاصة و بصوته الملئ بالشجن و الحب و عبق الزمن كلمات الحلاج
والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت إلا و حبّـك مقـرون بأنفاسـي .
هام الرجل و هام من حوله شوقنا من شوقه و شربنا من فيض صفاءه و نقاءه صلينا المغرب في بيته ثم ودعته
و انصرفت .حال هذا الرجل الطيب و هو بالمناسبة اسم عائلته ” الطيب” يلفت انتباه أي إنسان كيف تحمل
الألم و كيف يهيم بهذا الحب مع رسول الله ؟ سمح الوجه لطيف المجلس.
صديقي المتصوف
صرنا أصدقاء يسأل عني و اسأل عنه و متي تقابلنا أخذنا بعضنا بالأحضان و القبل شئ من الألفة صارت بيينا
و كأننا صحبة منذ زمن رغم أنه في عمر جدي و الجميع يتعجب من هذه الحال لكن للعلم هذا الرجل كان شديد ” الشقاوة” في صغره ضيع الكثير من الأموال و تراه عندما تذكر أيامه الخوالي يبكي و يندم و كأنه يحاول
نسيانها و لا يقدر.
و لكن لعل هذه الأيام بذكراها كانت سبباً ليذوق نعمة الطاعة ولذة الخير و جميل الذكر و حلاوة الحمد
و كيف هو الفارق بين لذة المعصية المؤقتة المشبعة للشهوة فقط أيا كانت و لذة الطاعة التي تدوم فمحلها
القلب تمكث فيه و تزيد و تنمو و تصبح غذاءا للروح التي تترفع عن كل ما هو أرضي و تتعلق بالسماء .
حالة من التصوف صادقة
سمعت كثيرا عن التصوف ” بدعه و هديه” لكن هذه المرة الأولى التي اعاشر فيها مريد محب صادق بحق
بغض النظر عن صحة ما يعتقد من عدمه و بغض النظر عن خلاف البعض عن أهل التصوف و طرقهم
و ما فيها من بدعة و غيره إلا أن هذا الرجل فيه صدق و نقاء قلب و كفي به لسانه الذاكر لله حد البكاء و عينه الدامعة مع ذكر رسول الله صلي الله عليه و سلم و آل بيته و حاله مع الله التي نحسبه علي خير فيها فلا نزكيه علي الله و مد تعلقه بلطف الله و توكله عليه و يقينه به ، صديقي العم ” سالم الطيب” كلما أردت جلسة بعيدة عن الدنيا ذهبت له أملأ نفسي فيضاً من راحة و أرى الدنيا علي حقيقتها بعين رجل تمتع بمتعها و ذاق حلاوة الطاعة فهو خير من ينبؤك
عن حقيقة الدنيا فقد عاشها و زهدها .